الخميس، 1 ديسمبر 2022

الحاضرة الغائبة... خاطرة بقلم انجي سامح صفوت

ما إن أصل تحت منزل جدتي حتى تتملَّكني سعادة خفيَّة وغامرة، فقد كان لشارع جدتي رائحة مميَّزة، هناك أمام باب بيتها هذا البنان العظيم، يبعث برائحة حبوب البن المحمصة المطحونة التي تجعلك تشعر أنك في غرام مع القهوة وصانعها. بجوار باب البيت يوجد فرن "أفرنجي" عتيق، ولكنه أشبه بمكان مليء بسحر العجين، فيذيبك في رائحة الفطير الطازج والعيش الفينو الخارج من الأفران في زهو وسط أصناف من المعجنات، تجعلني أشعر أن الله قد وضع سرَّ السعادة في الخبز. أتسابقُ أنا وأخي على السلالم الضيقة حتى نصل إلى الدور الثاني، نتسارع إلى رن الجرس أو الخبط على زجاج الشُراعة التي كانت أحلى ما يزين أبواب البيوت في هذا الزمان. وما إن ينفتح الباب وندخل ونحن نتسابق نلقي بالسلام على جدي وجدتي ونحن في عجلة من أمرنا، ثم نتوقف فجأة ونحن نلهث وأنفاسنا المتلاحقة تكاد تتوقف فنمر من أمام غرفة المعيشة في هدوء وحذر شديدين، نراقب الكرسي الهزاز حيث تجلس قطة جدتنا فنطمئن أنها تغطُّ في نوم عميق، وبجوار كرسيها على الأرض طبق طعامها الذي يبدو أنها قد أنهته قبل وصولنا.. ولا تمر سوى لحظات حتى نسمع الصوت الذي لطالما أحببناه وانتظرناه ينادينا مرحباً من غرفتها، فنسرع إليها كما لو كان قطار المرح عاد لينادينا من جديد فنعود للركض من جديد فلا بدَّ من اللحاق به، فهذا ليس أي قطار، إنه قطار "عمتي" كانت امرأة جميلة جداً، تكبر أبي وعمي ببضع سنوات، تختلف كثيراً عن كل من رأيتهم في حياتي، فقد كانت أقل وزناً وطولاً عمن هم في البيت، فكنا نشعر أنها أقرب إلينا وأنها تفهمنا جيداً، فقد خلقها الله مختلفة لنا نحن الأطفال حتى نجد أخيراً من يتواصل معنا في عالمنا بينما يحيا أيضاً في عالم الكبار فينقل لهم ما نشعر نحن به. كان لها عينان عسليتان واسعتان، شعرها الأسود اللامع ينسدل على كتفيها الصغيران، شديدة النظام في غرفتها دائماً تنبعث من غرفتها رائحة الصابون أو العطور الكلاسيكية الراقية. ترحب بنا في غرفتها أو بالأحرى في عالمها المبهج والخاص، تقابلنا بابتسامتها الدافئة فاتحة ذراعيها لنرتمي في أحضانها الدافئة وقبلاتها الرقيقة، ثم تهمس لنا في مرح "هيا ابحثوا بسرعة". ننظر أنا وأخي نحو بعضنا البعض ونبتسم بشقاوة طفولية وتحدٍ من سيبدأ سباق البحث الخطير هذا. ندور أنا وأخي في كل أركان الحجرة، نفتش في كل مكان تطوله أيدينا الصغيرة، ينزل أخي تحت السرير فلا يجد سوى أحذيتها المرصوصة بعناية نتجه نحو الدولاب نقلب كل شيء رأساً على عقب ولا نسمع منها كلمة "لا" أو "كفى" ثم نندفع نحو مكتبها المنمق ويصرخ أحدنا بلهفة وحماس من وجد كنز. "وجدتههههههه" إنه كيس الحلوى خاص جداً، والذي يحتوي على كل أنواع الحلوى المفضَّلة لنا، ومن كل نوع قطعتين واحدة لي وأخرى لأخي. نشكرها في تهليل ونمطرها بقبلات وأحضان تكاد تسقط جسدها الصغير، ثم نجلس في حجرتها نقسم حلوانا ونأكلها في سعادة واستمتاع. ولا أذكر كم مرة تكرَّرت تلك اللحظات، ولكن الشعور بها هو كفيض سعادة لم يتوقف حتى يومنا هذا. ورغم رحيل عمتي الغالية منذ أكثر من عشرين عاماً إلا أنني أتذكرُ كل تفاصيلها المغروسة في كياني. أحبتنا عن حق، وأحببناها بصدق، ودامت لنا أحلى ذكريات الطفولة في غرفتها وعالمها السحري. نفتقدكُ ولكن إلى أن نلتقي سنظل نذكرك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اتفضلو جرو شكلى